هذه قصة حقيقية رواها الشيخ محمد الصاوي فى محاضرة له بعنوان " صاحبى قتلنى " .
أمسك " توفيق بشهادة الثانوية العامة فرحا مسروراً بالدرجات التى قد حاز عليها و ذهب مسرعاً يجتاز طرق القرية التى يعش فيها هو و أهله إلى بيته و دخل و ارتمى بين يدى أمه العاجزة و قال لها : يا أماه أخيراً سأحقق ما تمنيت سأدخل كلية الطب و أعالجكِ من مرضك و جميع أسقامك . فبكت الأم من لهف فرحتها و قالت له : أنت موفق على اسمك يا بنى ... و بارك الله فيك .
و ذهب توفيق للتقديم فى الكلية بالمدينة و تم الموافقة على طلبه و بعد ذلك عاد لقريته ثم بعد فترة من الزمن أشرقت شمس ذلك اليوم الذى سيودع فيه توفيق أهله و يذهب إلى المدينة كى يباشر دراسته و فارقهم فراق المودع و البكاء يكلل عيون الجميع .
وصل توفيق إلى المدينة و سكن فى أحد البنايات الحصصة للمغتربين و كان نزلاء إسكانه من الطلبة بكلية الطب معه فلم يجد صعوبة فى التعرف عليهم و لكنه وجد منهم تقصيراً فى الصلوات المفروضة و ربما سهروا إلى ساعات متأخرة من الليل فكان يتجنبهم كثيراً و يحرص على صلاة الجماعة بالمسجد المجاور للإسكان .
بدأ توفيق يتقدم فى دراسته و يتفوق بالفعل و يحوز بإعجاء معلميه .. و كان يطمئن على والديه و أخته من حين لآخر .
و فى ذات يوم جاء نزيل جديد معهم فى الإسكان الجامعى و كان شاب يدعى " وائل " فكان فى غرفة مجاورة لهم و كان ينبعث دائماً من مسجله صوت الغناء الصاخب و كان ينصحه " توفيق " من وقت لآخر .
و فى مرة أتى وائل إلى غرفة توفيق و طرق الباب و قال له أريد أن تشرب معى الشاى الليلة يا توفيق فسيأتينى مجموعة من الأصدقاء سيعجبونك كثيراً ... فاستجاب توفيق لطلبه و ذهب معه فكان الجمع مجتمعون على الطرف و الضحك و وجد " توفيق " بعضاً من أنسه معهم و تواعدوا للخروج فى أحد الاستراحات لقضاء سهرة الأسبوع ...
و جاء ذلك اليوم و ذهبوا إلى الاستراحة و كانت الشيشة تتنقل بينهم و لكن كان توفيق يرفض مشاركتهم .. فغمز " وائل " إلى أحد الجالسين معهم فقال الفتى : سأدخل كى أحضر لكم شاياً تنسون أنفسكم معه .. قذهب ثم عاد ذلك الذئب بنظراته المريبة و معه براد الشاى .. شرب الجميع و راح الكل يضحك و يقهقه و أكثر من ذلك فمنهم من غاب عن الوعى و منهم من ظل يسعل فذلك نتيجة الحبوب الصفراء التى ألقاها الخبيث فى براد الشاى .. ثم بعد ذلك انصرف الجميع و عادوا إلى غرفهم .
فى الصباح أحس " توفيق " بآلام فى دماغه تكاد تفجرها فانطلق إلى غرفة وائل يطرق الباب فلما فتح قال توفيق : انقذنى و تعالى معى إلى المستشفى فرأسى تكاد تنفجر ,,, فابتسم الخبيث و قال له : لا تخاف عندى دواءك !! فقال له " توفيق " : أرجوك ساعدنى فأنا أكاد أموت من الألم ... فدخل وائل و أعد كوباً من الشاى المنعش فلما شربه توفيق راح عنه الألم فسأله عما فيه فرد عليه وائل : إنها خلطة الشاى العجيبة .. و مرت الأيام و سقط توفيق فى المخدرات و نحف كثيراً و مال وجهه إلى السواد و نسى فى زحمة الشهوات أمه المسكينة و أبيه العجوز و أخته الحبيبة ... لا تسألوا عن توفيق الآن .. فهو أسير تلك السموم ..
مرت تلك الأيام و أسقطوه أولئك الأشرار فى شباك الزنى و البغاء و أصبح لهم فى كل أسبوع صيد ثمين يتناولونه واحداً تلو الآخر كالحيوانات و كان لتوفيق معهم نصيب ..
مرت سبعة أشهر متتالية على هذه الحال و فصل توفيق من كليته بسبب غيابه المتكرر و تردى مستواه الدراسى .. و أصبح فى المدينة مجهول الهوية يبحث فقط عن الملذات و الشهوات و المخدرات ...
نسى قريته الصغيرة
نسى مسجد القرية الصغير
نسى أصحابه الصالحين
نسى مدرسته الثانوية
و نسى لحظات السعادة التى كان يجدها
نسى كل شئ ...
حتى جاء يوم الألم .. و راح إلى الاستراحة و كان زملاءه ينتظرونه هناك فلما رآه أحدهم قال له لماذا تأخرت يا توفيق ؟ فرد عليه توفيق بغضب : ماذا عندك ؟ فقال له : عندنا الليلة فتاة جميلة و انتهينا كلنا منها و جاء دورك ..... سار بخطواته المتهالكة .. حتى وصل إلى باب الغرفة .. ففتحه .. و دخل و أغلقه وراءه بإحكام .. التفت إليها.. و زاد خفقان قلبه .. وتسارعت النبضات .. كانت تلك الفتاة تجلس فى زاوية الغرفة دافنة رأسها بين ركبتيها و جلست القرفصاء تبكى ... فدنا إليها و هو يشعر بشئ يجذبه إليها ثم قال لها : هيا يا حبيبتى ... فرفع رأسها بيده و كانت الصاعقة
فقد كانت أخته فصرخ و هو ينهار :
لا
لا
أختى
ما الذى جاء بكِ إلى هنا
فجلس يبكى بجانبها فنظرت إليه و قالت باكية :
واأسفى عليك يا توفيق
تركتنا
نسيتنا
نسيت الصدر الحنون الذى كان يحويك كلما أحسست بألم
نسيت أمنياتك التى كنت تخبرنى بها
نسيت القلب الذى كان يحمل عنك همومك
نسيت لحظات السعادة فى بيتنا الصغير
\
\
\
أبوك مات قبل خمسة أشهر
و أمك أصيبت بشلل كامل
و أصبحت أنا حيرى لا معين لى و لا أحد يساعدنى
فجمعت مالاً كى أحضر إلى المدينة و أسأل عنك فذهبت للكلية و أخبرونى أنك قد فصلت قبل سبعة أشهر فزاد ألمى .. و ظللت أبحث عنك حتى وقعت بين يدى الأشرار و فقدت طهرى و عفتى و حيائى ..
و ها أنت الآن تريد أن تدمر آخر ما بقى من حياتى
يا حسرتى على أخى
فصرخ توفيق بأعلى صوته :
لا
سامحينى يا أختى
خذى قلبى و مزقيه
خذى ما احتوى و احتويه
خذى إن يرضيكِ احتراقى
فلم أملك سواه لتأخذيه
خذينى و اجرحى ما شئتى لكن
لا تجرحى خاطرى لا تجرحيه
و إن شئتى اجرحيه و خضبينى بماء دمى
و إن شئتى اسحقيه
كرهت العيش ما أقساه عيشاً
دهاليز المذلة تحتويه
أيا يا أختاه كيف أتيتِ
هلا غضضت الطرف عن عفن كريه
رأيتك فاقشعر الجلد هولاً
و ثار القلب يصرخ فاسمعيه
طعنت حشا حياءك فاعذرينى
إنه الشيطان يغوى مقتفيه
و هل تطفأ بعذركِ نار قلبى
أبيت أبيت لا لا تعذريه
فصاحت من أساها واعفافى
و واعرضى و شرفى و تيهى
يكاد أخى يكمل هدم طهرى
و يغرس حربة الأرجاس فيه
ألا يا خيبة البصر المغشى
بأحلام تطول بمرتجيه
أتيت أراه هل أمسى طبيباً
فأبصرت الخنى بيدى سفيه
و حملت المواجع مثقلات
لأنات العذاب و ما يليه
و من يرمى الحرام فسوف يرمى
به فى أهله أو فى بنيه
أيا أماه ابنكِ وجه سوء
و لو ابصرتِ لن تعرفيه
و يا أماه ابنكِ صار فرداً
من ساداتِ الهوى لن تدركيه
ألا ليت الممات يباع إنا
إذا بالمال و الدم نشتريه
و هكذا انتهت حياة توفيق بسبب خلة السوء رفقة الشيطان
قال الله تعالى : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين * يا عبادى لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون * "
منقول